الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (100- 101): {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}قال سيبويه: الواو واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام، وقال الأخفش: هي زائدة، وقال الكسائي: هي أو وفتحت تسهيلاً، وقرأها قوم أوْ ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، وكما يقول القائل: لأضربنك فيقول المجيب: أوْ يكفي الله.قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا كله متكلف، واو في هذا المثل متمكنة في التقسيم، والصحيح قول سيبويه وقرئ {عهدوا عهداً} وقرأ الحسن وأبو رجاء {عوهدوا} و{عهداً} مصدر، وقيل: مفعول بمعنى أعطوا عهداً، والنبذ: الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقع على اليسير والكثير من الجمع، ولذلك فسرت كثرة النابذين بقوله: {بل أكثرهم} لما احتمل الفريق أن يكون الأقل، و{لا يؤمنون} في هذا التأويل حال من الضمير في {أكثرهم}، ويحتمل الضمير العود على الفريق، ويحتمل العود على جميع بني إسرائيل وهو أذم لهم، والعهد الذي نبذوه هو ما أخذ عليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف ابن مسعود {نقضه فريق}.وقوله تعالى: {ولما جاءهم رسول من عند الله}، يعني به محمد صلى الله عليه وسلم، وما {معهم} هو التوراة، و{مصدق} نعت ل {رسول}، وقرأ ابن أبي عبلة {مصدقاً} بالنصب، و{لما} يجب بها الشيء لوجوب غيره، وهي ظرف زمان، وجوابها {نبذ} الذي يجيء، و{الكتاب} الذي أتوه: التوراة، و{كتاب الله} مفعول ب {نبذ}، والمراد القرآن، لأن التكذيب به نبذ، وقيل المراد التوراة، لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ، و{وراء ظهورهم} مثل لأن ما يجعل ظهرياً فقد زال النظر إليه جملة، والعرب تقول جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق:و{كأنهم لا يعلمون} تشبيه بمن لا يعلم، إذ فعلوا فعل الجاهل، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.وقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين} الآية، يعني اليهود، قال ابن زيد والسدي: المراد من كان في عهد سليمان، وقال ابن عباس: المراد من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الجميع، و{تتلو} قال عطاء: معناه تقرأ من التلاوة، وقال ابن عباس: {تتلو} تتبع، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً، وتتلو بمعنى تلت، فالمستقبل وضع موضع الماضي، وقال الكوفيون: المعنى ما كانت تتلو، وقرأ الحسن والضحاك: {الشياطون} بالواو.وقوله: {على ملك سليمان} أي على عهد ملك سليمان، وقيل المعنى في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره، وقال الطبري: {اتبعوا} بمعنى فضلوا، و{على ملك سليمان} أي على شرعه ونبوته وحاله، والذي تلته الشياطين: قيل إنهم كان يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات قالت الشياطين: إن ذلك كان علم سليمان، وقيل: بل كان الذي تلته الشياطين سحراً وتعليماً فجمعه سليمان عليه السلام كما تقدم، وقيل إن سليمان عليه السلام كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطراً من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان، وقيل إن آصف تواطأ مع الشياطين على أن يكتبوا سحراً وينسبوه إلى سليمان بعد موته، وقيل إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه، وقيل إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علماً، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل، هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح، هو هذا السحر، فاستخرجته بنو إسرائيل وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً.وقوله تعالى: {وما كفر سليمان} تبرئة من الله تعالى لسليمان، ولم يتقدم في الآيات أن أحداً نسبه إلى الكفر، ولكنها آية نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر، والسحر والعمل به كفر، ويقتل الساحر عند مالك رضي الله عنه كفراً، ولا يستتاب كالزنديق، وقال الشافعي: يسأل عن سحره فإن كان كفراً استتيب منه فإن تاب وإلا قتل، وقال مالك: فيمن يعقد الرجال عن النساء يعاقب ولا يقتل، واختلف في ساحر أهل الذمة فقيل: يقتل، وقال مالك: لا يقتل إلا إن قتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه، وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون من {لكنّ} ونصب الشياطين، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بتخفيف النون ورفع {الشياطينُ}، قال بعض الكوفيين: التشديد أحب اليّ إذا دخلت عليها الواو لأن المخففة بمنزلة بل، وبل لا تدخل عليها الواو، وقال أبو علي: ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد إلا أنها لا تعمل إذا خففت، وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر، وإما بعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، وكل ذلك كان، والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل، و{السحر} مفعول ثان ب {يعلمون}، وموضع {يعلمون} نصب على الحال، أو رفع على خبر ثان.وقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}: {ما} عطف على {السحر} فهي مفعولة، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر من اتعبه ويؤمن من تركه، أو على قول مجاهد وغيره: إن الله تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر، أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه.قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل إن {ما} عطف على {ما} في قوله: {ما تتلو}، وقيل: {ما} نافية، رد على قوله: {وما كفر سليمان}، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائل بالسحر فنفى الله ذلك، وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى {الملِكين} بكسر اللام، وقال ابن أبزى: هما داود وسليمان، وعلى هذا القول أيضاً ف {ما} نافية، وقال الحسن: هما علجان كانا ببابل ملكين، {فما} على هذا القول غير نافية، وقرأها كذلك أبو الأسود الدؤلي، وقال: هما {هاروت وماروت}، فهذا كقول الحسن.و{بابل} لا ينصرف للتأنيث والتعريف، وهي قطر من الأرض، واختلف أين هي؟ فقال قوم: هي بالعراق وما والاه، وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل، وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين، وقال قوم: هي بالمغرب.قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، وقال قوم: هي جبل دماوند، و{هاروت وماروت} بدل من {الملكين} على قول من قال: هما ملكان، ومن قرأ {ملِكين} بكسر اللام وجعلهما داود سليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل، جعل {هاروت وماروت} بدلاً من {الشياطين} في قوله: {ولكن الشياطين كفروا}، وقال هما شيطانان، ويجيء {يعلمون}: إما على أن الاثنين جمع، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس، ومن قال كانا علجين قال: {هاروت وماروت} بدل من قوله: {الملكين}، وقيل هما بدل من {الناس} في قوله: {يعلمون الناس}، وقرأ الزهري {هاروتُ وماروتُ} بالرفع، وجهه البدل من {الشياطين} في قوله: {تتلو الشياطين} أو من {الشياطين} الثاني على قراءة من خفف {لكنْ} ورفع، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره هما {هاروت وماروت}.وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة، فقال الله لهم: اختاروا ملكين يحكمان بين الناس، فاختاروا هاروت وماروت، فكانا يحكمان، فاختصمت إليهما امرأة ففتنا بها فراوداها، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه، فتكلمت به فعرجت، فمسخت كوكباً فهي الزهرة، وكان ابن عمر يلعنها.قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ضعيف وبعيد ابن عمر رضي الله عنهما، وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من فارس فجرى لهما ما ذكر، فأطلع الله عز وجل الملائكة على ما كان من هاروت وماروت، فتعجبوا، وبقيا في الأرض لأنهما خُيِّرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما، وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا له: {إنما نحن فتنة فلا تكفر}.قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض، ولا يقطع منه بشيء، فلذلك اختصرته.ذكر ابن الأعرابي في الياقوتة أن {يعلمان} بمعنى يعلمان ويشعران كما قال كعب بن زهير [الطويل]. وحمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان الناس بالسحر وينهيان عنه، وقال الجمهور: بل التعليم على عرفه، و{لا تكفر} قالت فرقة: بتعلم السحر، وقالت فرقة: باستعماله، وحكى المهدوي أن قولهما: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله، و{من} في قوله: {من أحد} زائدة بعد النفي. .تفسير الآيات (102- 104): {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}وقوله تعالى: {فيتعلمون}: قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، وقيل هو معطوف على قوله: {يعلمون الناس}، ومنعه الزجاج، وقيل: هو معطوف على موضع {وما يعلمان} لأن قوله: {وما يعلمان} وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم، وقيل التقدير فيأتون فيتعلمون، واختاره الزجاج، والضمير في {يعلمان} هو لهاروت وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم، والضمير في {منهما} قيل: هو عائد عليهما، وقيل: على {السحر} وعلى الذي أنزل على الملكين، و{يفرقون} معناه فرقة العصمة، وقيل معناه: يؤخِّذون الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضاً فرقة.وقرأ الحسن والزهري وقتادة: {المرءِ} براء مكسورة خفيفة، وروي عن الزهري تشديد الراء، وقرأ ابن أبي إسحاق {المُرء} بضم الميم وهمزة وهي لغة هذيل، وقرأ الأشهب العقيلي {المِرء} بكسر الميم وهمزة، ورويت عن الحسن، وقرأ جمهور الناس {المَرء} بفتح الميم وهمزة، والزوج هنا امرأة الرجل، وكل واحد منهما زوج الآخر، ويقال للمرأة زوجة قال الفرزدق. [الطويل]وقرأ الجمهور {بضارين به}، وقرأ الأعمش {بضاري به من أحد} فقيل: حذفت النون تخفيفاً، وقيل: حذفت للإضافة إلى {أحد} وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور، و{بإذن الله} معناه. بعلمه وتمكينه، و{يضرهم} معناه في الآخرة {ولا ينفعهم} فيها أيضاً، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى إنما هو أمر الآخرة، والضمير في {علموا} عائد على بني إسرائيل حسب الضمائر المتقدمة، وقيل: على {الشياطين}، وقيل على {الملكين} وهما جمع، وقال: {اشتراه} لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، والخلاق النصيب والحظ، وهو هنا بمعنى الجاه والقدر، واللام في قوله: {لمن} المتقدمة للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط، وتقدم القول في {بئسما}، و{شروا} معناه باعوا، وقد تقدم مثله، والضمير في {يعلمون} عائد على بني إسرائيل باتفاق، ومن قال إن الضمير في {علموا} عائد عليهم خرج هذا الثاني على المجاز، أي لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا كأنهم لا يعلمون، ومن قال إن الضمير في {علموا} عائد على {الشياطين} أو على {الملكين} قال: إن أولئك علموا أن لا خلاق لمن اشتراه وهؤلاء لم يعلموا فهو على الحقيقة، وقال مكي: الضمير في {علموا} لعلماء أهل الكتاب، وفي قوله: {لو كانوا يعلمون} للمتعلمين منهم.وقوله تعالى: {ولو أنهم آمنوا}: موضع {أن} رفع، المعنى لو وقع إيمانهم، ويعني الذين اشتروا السحر، {ولو} تقتضي جواباً، فقالت فرقة جوابها {لمثوبة}، لأنها مصدر للمضي والاستقبال، وجواب {لو} لا يكون إلا ماضياً أو بمعناه، وقال الأخفش: لا جواب ل {لو} في هذه مظهراً ولكنه مقدر، أي لو آمنوا لأثيبوا.وقرأ قتادة وأبو السمال وابن بريدة {لمثْوَبة} بسكون الثاء وفتح الواو، وهو مصدر أيضاً كمشورة ومشورة، ومثوبة رفع بالابتداء و{خير} خبره والجملة خبر ان، والمثوبة عند جمهور الناس بمعنى الثواب والأجر، وهذا هو الصحيح، وقال قوم: معناه لرجعة إلى الله من ثاب يثوب إذا رجع، واللام فيها لام القسم لأن لام الابتداء مستغنى عنها، وهذه لا غنى عنها، وقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل أن يراد: لو كانوا يعلمون علماً ينفع.وقرأ جمهور الناس {راعِنا} من المراعاة بمعنى فاعلنا أي أرعنا نرعك، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على التأويل، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم: وقالت طائفة: هي لغة كانت الأنصار تقولها، فقالها رفاعة بن زيد بن التابوت للنبي صلى الله عليه وسلم ليّاً بلسانه وطعناً كما كان يقول: اسمع غير مسمع، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة.قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة. فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحاً؛ وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة {راعناً} بالتنوين، وهذه من معنى الجهل، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون {راعنا} دون تنوين، وفي مصحف ابن مسعود {راعونا}، وهي شاذة، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم كما تخاطب الجماعة، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولاً من الرعونة.و{انظُرنا} مضمومة الألف والظاء معناها انتظرنا وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى {راعنا}، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود، وقرأ الأعمش وغيره {أنظِرنا} بقطع الألف وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك.ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة، واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذاباً أليماً، وهو المؤلم، {واسمعوا} معطوف على {قولوا} لا على معمولها.
|